على مدار السنوات الماضية، أكثرتُ من البحث والتأمل في أسباب تراجع الصحة النفسية وتزايد هشاشة الإنسان المعاصر على المستويين النفسي والاجتماعي. ومن خلال تجربتي الفكرية ورؤيتي الشخصية، وجدت نفسي أبتعد تدريجيًا عن التفسير السائد الذي يلقي اللوم بشكل رئيسي على النمط الرأسمالي في عصرنا الحالي، على الرغم من اعترافي بأن الرأسمالية، بطبيعتها، تستغل الآخر وتسعى دوماً إلى المزيد من الأرباح، مما يضع الإنسان في صراع دائم مع متطلبات السوق والنجاح المادي.
لكن، وبعد تمحيص أعمق، لا أجد الرأسمالية وحدها هي السبب الجذري في هذه الظاهرة التي أراها متجذرة أكثر في طبيعة الإنسان الحديث ذاته. الإنسان المعاصر، في زمن النعمة والرفاهية، أصبح معتادًا على وفرة الموارد وسهولة الوصول إلى المتطلبات الأساسية وأشكال متعددة من التسلية والراحة. وهذا الاعتياد على "النعمة" لم يجعل الإنسان أكثر قوة وصلابة، بل على العكس، جعل لديه حساسية مفرطة تجاه أي انقطاع أو نقص، مهما كان بسيطًا.
هنا تتقاطع أفكاري مع ما أشار إليه الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، الذي رأى أن الإنسان يجب أن يعيش في مواجهة مع الألم والتحديات، لأن ذلك هو الذي يصنع منه "الإنسان الأعلى" القادر على تجاوز محدودياته. نيتشه قال في "هكذا تكلم زرادشت": "ما لا يقتلني يجعلني أقوى." وهذه المقولة تعكس فكرة أن التحديات والأزمات هي محرك أساسي للنمو النفسي والروحي. وعندما يفتقد الإنسان هذا المحرك، تتراجع قوته النفسية، ويصبح هشًا وعُرضة للأمراض النفسية.
كذلك، تعزز الفكرة نفسياً ما قاله عالم النفس الأمريكي فيكتور فرانكل، الناجي من المحرقة، في كتابه "الإنسان يبحث عن معنى"، حيث أكد أن افتقار الإنسان إلى معنى حقيقي لحياته، إلى غاية تتجاوز ذاته، هو سبب رئيسي لمعاناته النفسية. في عصرنا الحديث، حيث توفر النعم ماديًا، وغابت المعاني الروحية والوجودية العميقة، صار الإنسان في حالة من الضياع النفسي.
من هنا، لا يمكن حصر السبب في البعد المادي أو النظام الاقتصادي فقط، بل يجب النظر إلى الإنسان ككل، بما يملكه من ضعف أو قوة نفسية، وبما يعيشه من علاقات اجتماعية وثقافية. الإنسان الحديث، في محيط مليء بالترف، لكنه يعيش في عزلة داخلية ونقص معنوي، وبالتالي يعاني من هشاشة نفسية تفوق بكثير ما يمكن تفسيره فقط بالرأسمالية أو الضغوط الاقتصادية.
أرى أن السبب الرئيسي في هذه الهشاشة النفسية التي نعانيها اليوم يكمن في تلميع صورة الإنسان العادي البسيط وتحويلها إلى نموذج مثالي معقد وغير واقعي. ففي كتب التنمية الذاتية تجد صفحات لا تنتهي من النصائح والإرشادات حول كيف تكون إنسانًا سعيدًا، إنسانًا منتجًا، كيف تتخلص من العصبية والكسل — صفات كلها حميدة وتحسينية، ولا شك أنني أتمنى لو امتلكها كلها، لكن الحقيقة أن هذه الصفات لا يمكن أن تجتمع كلها في إنسان واحد خالٍ من الشوائب والضعف.
وفي الكتب الاجتماعية، وفي خطب المستشارين الأسريين ، ترى صورة الأب المثالي، الأم المثالية، الصديق المثالي، وغير ذلك من النماذج التي تبدو للمستمع وكأنها معايير ثابتة ومطلقة يجب أن يتطابق معها كل منا، سواء على المستوى العاطفي أو المادي أو حتى الترفيهي. وعندما تلتفت إلى الحياة الواقعية، أتساءل: أين هذا الإنسان الذي يتحلى بكل هذه المثالية والسعادة والرفاهية؟ ذلك النموذج الذي يتوق إليه الجميع، ويحاولون التماهي معه؟ الحقيقة المؤلمة أن هذا النموذج غير موجود، لكنه رغم ذلك لا زلنا نصر على السعي خلفه وكأن هناك نقصًا عميقًا بداخلنا لنكمله أو نصل إليه.
وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية؛ فحين يشعر الشاب الأمريكي، الذي أختاره كنموذج لأنه بلا شك رائد في صناعة التنمية الذاتية، بالحزن أو الألم نتيجة فقد عزيز أو خيانة أو تجربة مؤلمة، يتجه سريعًا إلى تناول مضادات الاكتئاب، كأن الحزن أصبح خطيئة يجب التخلص منها فورًا، وليس حالة إنسانية طبيعية، جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية المتغيرة والمتطورة. لا ندرك أن الحزن، والغضب، وحتى التوتر والقلق، هي مشاعر بشرية طبيعية وليست علامات ضعف.
حتى في العلاقات الشخصية، يكمن الخلل في تطلعاتنا إلى حب مثالي، خالٍ من أي انزعاج أو نقص. نريد من شريكنا أن يحبنا كما نحب أنفسنا، بكمال لا عيوب فيه، وهو مطلب مستحيل، مبني على نموذج خيالي لا وجود له إلا في الأحلام. هذا الحب المثالي لا علاقة له بالواقع، لكننا نصر عليه كشرط وحيد للاستمرار في العلاقة، وعند أول خلاف أو إحباط، نختار الهروب والانسحاب.
تعزز وسائل التواصل الاجتماعي هذه الصورة المزيفة، حيث يرى الإنسان البسيط أمامه أفضل الجوانب من حياة أناس متعددة. تلك الصور المنتقاة بعناية، اللحظات الناجحة، الابتسامات المثالية، النجاحات المهنية والعائلية المزيفة في معظمها، كلها تُعرض على الشاشة. فيظن الإنسان أن هذه هي الحياة الطبيعية، فيضع كفًا على كف وهو غارق في حسرة على حياته التي تبدو له كئيبة، عادية، بعيدة عن تلك المثالية الزائفة.
وهنا يتعاظم الشعور بالنقص والخذلان، ويزيد من حالة الهشاشة النفسية، لأن الإنسان لا يستطيع مجاراة هذا النموذج الخارجي غير الحقيقي الذي أصبح معيارًا للحياة السعيدة والمثالية.
في ضوء ما سبق، يصبح واضحًا أن علاج هشاشة الإنسان المعاصر لا يكمن في المزيد من السعي وراء نماذج مثالية مزيفة أو البحث عن وصفات سحرية للسعادة والإنتاجية، بل في تقبل حقيقة الإنسان كما هو: كائن غير كامل، يتصف بالتناقضات، يحتمل الألم، ويحتاج إلى أن يُسمح له بأن يكون هشًا في بعض الأحيان. يجب أن نتعلم أن نحتضن المشاعر المختلفة، وأن نسمح لأنفسنا بالخطأ والضعف، لأن في ذلك قوة وصدقًا أكثر من محاولات التظاهر بالكمال.
الحل يكمن في إعادة بناء صورة الإنسان البسيط، بواقعيته وبشريته، بعيدًا عن الضغوط التي تفرضها علينا كتب التنمية الذاتية أو توقعات المجتمع أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي. علينا أن نعطي مساحة للذات لتعيش بتوازن، تتعامل مع الألم والحزن كجزء طبيعي من الرحلة الإنسانية، وليس كعقاب أو مرض يجب علاجه فورًا.
كما يجب أن نعيد الاعتبار للعلاقات الإنسانية، بقبول الاختلافات والهفوات، وعدم التوقع من الآخرين أن يكونوا نسخة مثالية منا أو منا نسخة مثالية منهم. فالحب الحقيقي يبدأ عندما نتوقف عن محاولة السيطرة على الكمال ونتقبل الواقع بكل ما فيه من نقص وجمال.
موضوعك جميل جدا ، فمن العجيب كيف تحول الإنسان من إنسان مبدع يقود الحروب و يبني الحضارات إلى إنسانٍ ضعيف مُهمّش ، أقوى مهماته هو فعل شي في يومه كالمشي ،، ظانًّا من نفسه أنه قد حقق مبتغى الحياة و أنه قد أصبح الان إنساناً مثاليا! بالرغم من أنه نشاط إنساني عادي، أصبحنا نعيش في عقولنا أكثر من أن نعيش حقاٍّ. شكرا لطرحك الموضوع و أترقب مقالاتك القادمة.
سرد ممتع وواضح لمن لا علم له وأمدح اختيارك لهذا الموضوع لأنه نقطة حرجة في هذا الزمن وكثير غافلين عنه ، من يقاوم هذا النقص في النعم التي لا تعتبر مجالاً للسخط ابدًا سوف يبرز وأصبح سهل فعل ذلك لأن هذا الجيل ضعيف وهش